← Back Published on

تحت غطاء الدين تختبىء القباحة

تمر الأيام حاملةً أحلامنا، لنستيقظ على نورٍ لطالما كنا نرغب بالموصول إليه ومشاهدته يضيئ طريقنا، فيبشر وجهنا ويرد للروح بهجة النصر والهزيمة. نُرجع عقارب الساعة لتأخذنا إلى بداية أيام الثمانينات، حين جلس شاب، في مطلع مشواره الصحفيّ، مع والده لمناقشة مستقبله المهني. فما كان من والده إلاّ أن أعطاه ريالاً وطلب منه أن يرميه عالياً في الهواء. فأمسك بالريال ورماه عالياً حتى حط أرضاً ساكناً منسياً، نظر إليه الأب وقال له "يا بني... أعد رميه لكن في هذه المرة أزل السجادة من على الأرض". أمسك الريال مرة ثانية ورماه وإذ به يحط بصوتٍ لافتاً مسامع أهل البيت. فحدق والده في عينيه قائلاً "أسمعت؟ هذا أنت وكلي ثقة أن اسمك سيرن يوماً ما في آذان الناس أجمع".

ثلاثون سنة وجمال ابن أحمد خاشقجي يعمل وراء تحقيق أحلامه، بالكشف عن المستور وإيصال الحقيقة للعالم بنزاهته وجرأته التي جعلت منه مثالاً للصحفي الناجح. لم يقتصر عمله على الصحافة، فقد ترأس عدة مناصب في عدد من الصحف السعودية كصحيفة العرب نيوز وصحيفة الوطن. كما عيّن مديراً لقناة العرب الإخبارية سنة 2010، حتى وصل به المطاف إلى صحيفة واشنطن بوست ليستلم كتابة عامود فيها.

كان جمال معروفاً بأنه وفيّ لموطنه السعودية ولكنه منتقد لسياستها. بعد تقربه من العائلة الحاكمة، استطاع كشف الغطاء الديني عنهم ليرى فسادهم الذي سيدمر مستقبل السعودية. لم يتحمل رؤية السعودية تحتضر أمامه، فعلى صوته حتى تم نفيه من السعودية، وانتقل إلى الولايات المتحدة بغية العيش بأمان وحرية.

2 كانون الأول (أكتوبر) 2018، نقطة تحول في حياة جمال. يوم رن اسمه في أرجاء العالم مناشداً الحكومات لكشف حقيقة العائلة السعودية الحاكمة. في هذا اليوم ذهب جمال إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، لأخذ أوراق تثبت طلاقه من زوجته السابقة، ويبدأ حياةً جديدة مع خطيبته التركية خديجة جنكيز. لكن مثلما يقول المثل "دخول الحمام ليس مثل خروجه"، دخل جمال باب القنصلية ولم يخرج.

كان حدس جمال في محله عندما انتابه شعور بالقلقل وبأن شيئاً ما سيحصل له، حسبما ذكرت خطيبته التي كانت تنتظره خارج المبنى، منذراً إياها أنه إذا لم يعد فعليها أن تتصل بمستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي. بعد ثلاث ساعات من غيابه، شعرت خديجة بالقلق، وهرعت بالسؤال عنه داخل القنصلية، فما كان الرد منهم إلاّ أنه قد غادر. فسارعت بالتواصل مع الجهات المعنية مطالبةً بإيجاد دليل يثبت خروجه من القنصلية.

ومنذ ذلك اليوم لم تعثر السلطات المحلية التركية عن أثر له، وجميع أصابع الإتهام تتجه نحوى السعودية. فهي رغم نفيها وإصرارها على الإنكار وعدم الإعتراف بعمليتها القذرة، إلاّ أنها لم تصمد. فسبحان الصدف، أنه في ذلك اليوم وذلك الوقت بالتحديد، توقفت كاميرات المراقبة عن العمل نتيجة "خلل فني"، وهبطت طائرتين على متنها 15 شخص من الأمن السعودي من بينهم ماهر المترب (عقيد في المخابرات السعودية في لندن) وآخر أخصائي أبحاث جنائية. وحتى اللحظة، لاتملك السعودية دليلاً يثبت برائتها. وفي مقابلة تلفزيونية لبرنامج 60 دقيقة على قناة ال سي بي اس، أعلن ترامب أنه يتوعد السعودية بعقاب شديد إذا كان لها صلة بمقتل جمال.

إلى أين تتجه العلاقات التركية والأميركية-السعودية؟ فالبارحة أكد مسؤول تركي عن وجود تسجيلات بالصوت والصورة، تظهر تعرض خاشقجي للضرب و"تقطيع جسده" داخل القنصلية! مازالت التحقيقات جارية والعيون متربصة للإمساك بقاتلي الدم البارد. لم يتخيل جمال يوماً أن اسمه سيرن بهذه الفاجعة. ولطالما كان يطمح بإظهار الحق رغم الطغاة، فهل سينجح؟ وعلى أي نورٍ سيفتح أعينه، نور الحياة أم نور الآخرة؟